جارِ التحميل...
جارِ التحميل...
مكانٌ خفيّ لا يعرفه الكثير من الناس، لا يهمه الرياح العاتية أو مطر الشتاء الذي يهطل بغزارة ولا لهيب الشمس في أيام الصيف الحارقة،
أرضهُ ترابية لطالما رويت بدماء الأطهار وعرق الرجال الأخيار، حافتاهُ ألواحٌ اسمنتية وكذلك سقفه غير أنّه مقوّس، تفوح منه رائحة الرطوبة غير أنك لا تدري عنها شيئاً سوى من معلوماتك التي في ذهنك أنك ما دمت تحت الأرض فالرطوبة ستكون عالية والجو أقربُ للبرودة، فالرائحة التي تطغى هناك رائحة المجدِ والعزِ والفخار، ورائحة المسك التي فاحت من أجساد من صنعوا هذا الإعجاز بأيدٍ خاوية، بأقل الإمكانات وفي أصعب الظروف، غير أنهم يحملون عقيدة راسخة ولاقوا حتفهم وهم يصنعون طريق النصرِ،
هو مكان محفور في ذاكرة كلّ من دخله،
مكان ارتبط بحلمٍ واحد، هدفٌ واحد:
الحريةُ ولا شيء سواها.
منذ أيام، تجمع بضعة شباب في هذا المكان، قادمون من مختلف الأماكن والأزمان، يحملون شعار وكلمةُ الله هي العليا، بروحٍ واحدة تملأ كل أجسادهم وكأنهم على قلبِ رجلٍ واحد، لم يكونوا مجرد مقاتلين يائسين من الحياة، بل كلّ واحدٍ منهم يحمل حُلماً ونظرة مستقبلية كغيرهم من الشباب ولكنهم أبطالاً يقدموا كل غالٍ ونفيس إذا ما تعلق الأمر بمعتقداتهم ومقدساتهم،
يعرفون جيداً أن الطريق نحو هدفهم لن يكون مفروشاً بالورد.
القتال كان عنيفاً، والمقاومة شرسة،
تقنياتُ العدو كلها حاضرة أرضاً وجواً وبحراً، وهم بإرادة وعزيمة ومعية الله فمن يكون عليهم.
مرت الأيام وهم يخوضون معركة لم تكن لهم فيها أي فرصةٍ للراحة، وأقسى أنواع التدريب وأسوء السيناريوهات التي كانوا يضعونها لم تكن كما الواقع اليوم،
يخرجون من المكان الذي كانوا يهرعون إليه إذا حمي الوطيس حتى تهدأ المدافع والطائرات، الشمس تتأجج فوق رؤوسهم، والطين يغطي أقدامهم في كل مرة يحاولون فيها التقدم، كانوا يواجهون عدواً أقوى منهم عدداً، وأشدّ بأساً.
ولكن في عقيدتهم هذا شيءٌ هين ففي حساباتهم الرجل منهم بألفٍ من العدو، وعامل الرعب الذي يقف في صفهم له حساباتٌ خاصة، هكذا كانوا يرددوا ويشحذوا همم بعضهم البعض، كانت نيران المعركة تشتعل حولهم، ودخان الحرب يحجب الأفق كان الموت يلاحقهم من كل زاوية، وعلى الرغم من كثرة الدماء والدمار المرعب الذي يشاهدوه كلما خرجوا من عين النفق ظلوا صامدين، وما يزيدهم ثباتاً هو النجاحات المتتالية والضربات التي يثخنوا فيها العدو من وقتٍ لآخر، وإذا ما حلّ بهم يأسٌ أو ما شابه،
" لا تراجع، اليوم يومكم والأمةُ في ظهركم وأنتم حصنها المنيع وفجرها الباسم أنتم مشعل النصر، أروا الله منكم خيراً ".
كانت هذه كلمات أحدهم التي يرددها في كل مرة يراهم يتباطؤون، كان هو نفسه الذي فقد كل شيء في هذه الحرب عائلته، جيرانه، وأصحابه، فما تبقى له إلا الثأر.
ولك أن تتخيل كيف سيكون ثأرُ من يثأرُ لدينه ولنفسه ولوطنه،
الأقدار كانت تمضي في مسارها،
ووصل الخبر أن من كان في العُقدة التي كانت في مكانٍ قريبٍ منهم قضوا نحبهم شهداءَ على ذات الهدف، كيف بمن خرج من بيته تاركاً كل شيء خلفه قاصداً وجه الله ليعلي كلمته وينصر دينه ويؤازر إخوانه، نحسبه قد فاز والله حسيبه، فقد وقع أجره على الله،
الحمدُ لله الذي كتب لهم الشهادةُ إحدى الحُسنَيين،
ونسأله أن يكتب على أيدينا النصر،
هكذا كانت كلمات التعزية والمواساة بينهم وكذلك الإستعداد للجولة القادمة فالجولات والصولات ما زالت في طريقهم كثيرة.
وفي ذات صباح جاء الأمر أن هناك مجموعةً متسللة من العدو ويجب التعامل معهم، فخرجوا نحو الهدف ودارت بينهم معركة لم تكن باليسيرة وكتب الله لهم فيها النصر وعادوا غانمين، سالمين، مهللين ومكبرين، ولكن ما كان ينتظرهم بعد هذه المعركة أصعب من المعركة ذاتها، وما أصعب طريقهم وأقوى عزمهم.
انتبه أحد الشباب في نهاية الطريق وقبل أن يعبروا إلى المكان الذي فيه عين النفق شخصٌ ما مُلقى على الأرض،
فقال لهم: علينا أن نذهب وننظر إلى جثمانه ونفعل ما بوسعنا لكي ندفنه، فوالله لقد تفطرت قلوبنا عندما أخبرنا أحد الشباب أن الكلب الضآلة في الطرقات تنهش أجساد الشهداء!
وكأنه بهذه الكلمات كشفَ عن الشباب هماً، حزناً، فقداً، وشعوراً بالخذلان كان مختبئاً في صدورهم فمنهم من بكى ومنهم من أخذه التفكير بعيداً عما هم فيه، فقال أحدهم ذلك الذي دوماً ما ينقذ الأمور قبل أن تنهار: اتركوكم من هذه الحالة، علينا أن نذهب ونكمل طريقنا، لكن أحدهم أصرّ على أن يذهبوا لينظروا جثمان ذلك الشاب الذي رآه من بعيد.
فقال آخر:
أنضحي بالجميع من أجل جثةٍ هامدة؟
الحي أبقى من الميت، دعوكم من العاطفة وسيروا.
كان هناك في هذا الموقف حاجة لهكذا رأي، لكن القدر كان أقوى فأصرّ الشاب أن يذهب ويرى الجثة ويتولى أمرها، فلم يستطع أحد أن يقنعه وقرروا أن يذهبوا كلهم معه، وأن يعتبروها مهمة منوطة بالجميع، أترى أن الحفاظ على جثمان ميت من أن يأكله كلب، بحاجة إلى أن تخاطر مجموعةٌ بأرواحهم من أجل هذا؟
فساروا نحوه وبصعوبةٍ وصلوا إليه، وليتهُم ما وصلوا؟!
صرخ أحدهم صرخةً مدوّية أحدثت صدىٍ عندما عاين الجثة؟
لفتت هذا الصرخة الانتباه وبدأت القذائف تحلُّ على المكان من كل حدبٍ وصوب والطائرات المسيرة اجتاحت الأجواء، وعين النفق بعيدة عن هذا المكان والأمر صعب، لم يستطيعوا أن يدفنوا الجثة ولا أن يخفوها بعيداً عن متناول الكلاب، ولا هم في حالة مريحة تسمح لهم بالانسحاب من المكان،
من المتوقع أنك تتساءل وغاضبٌ من صاحب الصرخة لما أحدثه وما جنى به على رفاقه؟!
ولكنني نسيتُ أن أخبركم عن سبب صرخته!
فلقد كانت الجثة لأخيه الذي كان على ثغرٍ من ثغورِ المعركة.
أعطى أحد أفرادِ المجموعة الأمر بالانسحاب على أية حال وتحت أي ظرف، فالأمر يزداد صعوبة والآلياتُ تتجه نحوهم.
بكى صاحبنا كيف أترك جثة أخي تنهشها الكلاب؟!
كيف أمضي دون أدفنه، كيف؟!
أخذ أحدهم بيده بقوة وقال له: أنت أولى واحد تخرج من هنا بسلام لكي تأخذ بثأر أخيك.
فانسحب معهم وكُتب لهم أن يصلوا عين النفق بسلامة ظاهرية وفزعٌ وخوف وذعر يتخلل فيهم من هول الأحداث التي مرت عليهم،
أما عن ذاك الشاب الذي شعر بخيانة أخيه ولم يستطع أن يمنحه كرامة الميت، يتكأ على جدار النفق شارد الذهن مغيّباً، ولا يستطيع أحدهم أن ينتقي كلماتٍ تخفف عنه شيئاً أو تواسيه فكلهم شاهدوا الأمر بأعينهم فأيّ الكلمات تسعفهم؟
غيرَ واحدٍ منهم يبدو أن الكلمات قد أسعفته فقال بصوتٍ خافت، وبكى كل من سمعه وكأنه أذِن للدموع أن تسيل:
" هل كان عليه أن يضحي بالجميع كرمةً لأخيه؟
هل كان عليه أن يجعل من جثث أصدقائه وجبةً دسمةً لتلك الكلاب ؟
بالمقابل
هل كان من السهلِ عليه أن يترك جثة أخيه خلفه تنهشها الكلاب ثم يمضي مع الجميع كأنّ شيئاً لم يكن؟
لمَ جعلتُم من الشهداء مأدبةً للكلاب؟
هل كان هيناً عليكم أن تجعلوا
بطونَ الكلابِ مقبرةَ الشهداء؟
".